قصة كسرى وقيصر المشهورة مع النبي صلى الله عليه وسلم جديرة بالتأمل، فقد كتب إليهما النبي صلى الله عليه وسلم، فامتنع كلاهما من الإسلام، لكن قيصر أكرم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأكرم رسوله، فثبت الله ملكه، وكسرى مزق كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستهزأ برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتله الله بعد قليل، ومزق ملكه كل ممزق، ولم يبق للأكاسرة ملك. (الصارم المسلول: 144(
وكان من أثر ذلك ما ذكره السهيليُ أنه بلغه أن هرقل وضع الكتاب في قصبة من ذهب تعظيمًا له، وهم لم يزالوا يتوارثونه حتى كان عند ملك الفرنج الذي تغلب على طليطلة، ثم كان عند سبطه، فحدثني بعض أصحابنا أن عبد الملك بن سعد أحد قواد المسلمين اجتمع بذلك الملك فأخرج له الكتاب، فلما رآه استعبر، وسأل أن يمكنه من تقبيله فامتنع، ثم ذكر ابن حجر عن سيف الدين فليح المنصوري أن ملك الفرنج أطلعه على صندوق مُصفَّح بذهب، فأخرج منه مقلمة ذهب، فأخرج منها كتابًا قد زالت أكثر حروفه، وقد التصقت عليه خِرقَة حرير، فقال: هذا كتاب نبيكم إلى جدي قيصر، ما زلنا نتوارثه إلى الآن، وأوصانا آباؤنا أنه ما دام هذا الكتاب عندنا لا يزال الملك فينا، فنحن نحفظه غاية الحفظ، ونعظمه ونكتمه عن النصارى ليدوم الملك فينا.
وإليكم هذا الخبر العجيب!
كان أبو لهب وابنه عتبة قد تجهزا إلى الشام، فقال ابنه عتبة: والله لأنطلقن إلى محمد ولأوذينّه في ربه سبحانه وتعالى، فانطلق حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد (هو يكفر) بالذي دنى فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك".
ثم انصرف عنه، فرجع إلى أبيه فقال: يا بني ما قلت له؟ فذكر له ما قاله، فقال: فما قال لك؟ قال: قال: "اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك". قال: يا بني، والله ما آمن عليك دعاءه!
فساروا حتى نزلوا بالشراة وهي أرضٌ كثيرة الأسد، فقال: أبو لهب إنكم قد عرفتم كبر سني وحقي، وإن هذا الرجل قد دعا على ابني دعوة والله ما آمنها عليه، فاجمعوا متاعكم إلى هذه الصومعة وافرشوا لابني عليها ثم افرشوا حولها، ففعلنا، فجاء الأسد فشمَّ وجوهنا فلما لم يجد ما يريد تقبض فوثب وثبة، فإذا هو فوق المتاع فشمَّ وجهه ثم هزمه هزمة ففسخ رأسه!! فقال أبو لهب: قد عرفت أنه لا يتفلت من دعوة محمد!! (تفسير ابن كثير).
وذكر الكتانيّ في ذيل مولد العلماء (1/139) أنه ظهر في زمن الحاكم رجلٌ سمّى نفسه هادي المستجيبين، وكانوا يدعون إلى عبادة الحاكم، وحُكيَ عنه أنّه سبَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبصق على المصفح، فلما ورد مكة شكاه أهلها إلى أميرها، فدافع عنه، واعتذر بتوبته، فقالوا: مثل هذا لا توبة له! فأبى، فاجتمع الناس عند الكعبة وضجوا إلى الله، فأرسل الله ريحًا سوداء حتى أظلمت الدنيا، ثم تجلت الظلمة وصار على الكعبة فوق استارها كهيئة الترس الأبيض له نور كنور الشمس، فلم يزل كذلك ترى ليلاً ونهارًا، فلما رأى أمير مكة ذلك أمر بـ"هادي المستجيبين" فضرب عنقه وصلبَه.
وذكر القاضي عياض في الشفا (2/218) قصة عجيبة لساخر بالنبي صلى الله عليه وسلم! وذلك أن فقهاء القيروان وأصحابَ سحنون أفتوا بقتل إبراهيم الفزاري وكان شاعرًا متفننًا في كثير من العلوم، وكان يستهزئ بالله وأنبيائه ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فأمر القاضي حيى بن عمر بقتله وصلبه، فطُعن بالسكين وصُلب مُنكسًا، وحكى بعضُ المؤرخين أنه لما رُفعت خشبته، وزالت عنها الأيدي استدارت وحوَّلته عن القبلة فكان آيةً للجميع، وكبر الناسُ، وجاء كلبٌ فولغ في دمه!!
وحكى الشيخ العلامة أحمد شاكر أن خطيبًا فصيحًا مفوهًا أراد أن يثني على أحد كبار المسؤولين لأنه احتفى بطه حسين فلم يجد إلا التعريض برسول الله صلى الله عليه وسلم.. فقال في خطبته: جاءه الأعمى فما عبس وما تولى!!
قال الشيخ أحمدُ: ولكن الله لم يدع لهذا المجرم جرمه في الدنيا، قبل أن يجزيه جزاءه في الأخرى، فأقسم بالله لقد رأيته بعيني رأسي ـ بعد بضع سنين، وبعد أن كان عاليًا منتفخًا، مستعزًا بمن لاذ بهم من العظماء والكبراء ـ رأيته مهينًا ذليلاً، خادمًا على باب مسجد من مساجد القاهرة، يتلقى نعال المصلين يحفظها في ذلة وصغار!!
وذكروا أن رجلاً ذهب لنيل الشهادة العليا من جامعة غربية، وكانت رسالتُهُ متعلقة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكان مشرفه شانئًا حانقًا، فأبى أن يمنحه الدرجة حتى يضمن رسالته انتقاصًا للمصطفى صلى الله عليه وسلم، فضعفت نفسه، وآثر الأولى على الآخرة. فلما حاز شهادته ورجع إلى دياره فجئ بهلاك جميع أولاده وأهله في حادث مفاجئ.
لا إله إلا الله.
صدق الله.. : (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ).
وليعلم أن كفاية الله لنبيه ممن استهزأ به أو آذاه ليست مقصورة على إهلاك هذا المعتدي بقارعة أو نازلة.
بل صور هذه الكفاية والحماية متنوعة متعددة..
فقد يكفيه الله عز وجل بأن يسلط على هذا المستهزئ المعتدي رجلاً من المؤمنين يثأر لنبيه صلى الله عليه وسلم، كما حصل في قصة كعب بن الأشرف اليهودي الذي كان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم، واليهودية التي كانت تشتم النبي صلى الله عليه وسلم فخنقها رجل حتى ماتت (أبو داود) وأم الولد التي قتلها سيدها الأعمى لما شتمت النبي صلى الله عليه وسلم (أبو داود)، وأبي جهل إذ قتله معاذ ومعوذ لأنه كان يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخطْمية التي هجت النبي صلى الله عليه وسلم فانتدب لها رجل من قومها (الصارم المسلول 95)، وأبي عَفَك اليهودي الذي هجا النبي صلى الله عليه وسلم فاقتصه سالم ابن عمير (الصارم المسلول 102)، وأنس بن زُنَيم الذي هجا النبي صلى الله عليه وسلم فشجه غلام من خزاعه (الصارم المسلول 103)، وسلام ابن أبي الحقيق إذ ثأر للنبي صلى الله عليه وسلم منه عبد الله بن عتيك وصحبه (الصارم المسلول 135).
ولعل أغرب وأعجب وأطرف ما وقفت عليه في هذا الباب ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في مؤلفه المشهور (الصارم المسلول على شاتم الرسول) (ص: 134)، قال رحمه الله: وقد ذكروا أن الجن الذين آمنوا به، كانت تقصد من سبه من الجن الكفار فتقتله، فيقرها على ذلك، ويشكر لها ذلك!
ونقل عن أصحاب المغازي أن هاتفًا هتف على جبل أبي قبيس بشعر فيه تعريض بالنبي صلى الله عليه وسلم، فما مرت ثلاثة ايام حتى هتف هاتف على الجبل يقول:
نحن قتلنا في ثلاث مسعرا إذ سفه الحق وسن المنكرا
قنّعتُهُ سيفًا حسامًا مبتـرا بشتمـه نبينـا المطهـرا
ومسعر ـ كما في الخبر ـ اسم الجني الذي هجا النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن صور كلاءة الله لنبيه ممن تعرض له بالأذى أن يحول بين المعتدي وبين ما أراد بخوف يقذفه في قلبه، أو ملك يمنعه مما أراد.. وقد روي أن غورث بن الحرث قال لأقتلن محمدًا، فقال له أصحابه، كيف تقتله؟ قال: أقول له أعطني سيفك، فإذا أعطانيه قتلته به. فأتاه فقال: يا محمد أعطني سيفك أشمّه، فأعطاه إياه فرعدت يده، فسقط السيف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حال الله بينك وبين ما تريد" الدر المنثور 3/119).)
ومثل ذلك ما ذكره ابن كثير في تفسيره (4/530) من أن أبا جهل قال لقومه: واللات والعزى لئن رأيت محمدًا يصلي لأطأن على رقبته ولأعفرن وجهه في التراب، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ليطأ رقبته، فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه! فقيل: مالك؟ فقال: إن بيني وبينه خندقًا من نار وهولاً وأجنحة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا".
وعن ابن عباس رضي الله عنه أن رجالاً من قريش اجتمعوا في الحجر، ثم تعاقدوا باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ونائلة وإساف أن لو قد رأوا محمدًا لقد قمنا إليه مقام رجل واحد فقتلناه قبل أن نفارقه، فأقبلت ابنته فاطمة تبكي حتى دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: هؤلاء الملأ من قومك لقد تعاهدوا لو قد رأوك قاموا إليك فقتلوك، فليس منهم رجل واحد إلا قد عرف نصيبه من دمك. فقال: "يا بنية ائتيني بوضوء"، فتوضأ، ثم دخل عليهم المسجد، فلما رأوه قالوا: هاهو ذا، وخفضوا أبصارهم ، وسقطت أذقانهم في صدورهم، فلم يرفعوا إليه بصرًا، ولم يقم منهم إليه رجل، فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم حتى قام على رؤوسهم، وأخذ قبضة من التراب ثم قال: "شاهت الوجوه"، ثم حصبهم بها فما أصاب رجلاً منهم من ذلك الحصا حصاةٌ إلا قتل يوم بدر كافرًا. (دلائل النبوة 1/65).
لا إله إلا الله..
صدق الله..
إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ).
ومن صور حماية الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، وكفايته إياه استهزاء المستهزئين أن يصرف الشتيمة والذم والاستهزاء إلى غيره.. فإذا بالشاتم يريد أن يشتمه فيشتم غيره من حيث لا يشعر!!
قال صلى الله عليه وسلم :ألا ترون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم، يشتمون مذممًا، ويلعنون مذممًا، وأنا محمدٌ"! (البخاري)، قال ابن حجر (الفتح 6/558): كان الكفار من قريش من شدة كراهتهم في النبي صلى الله عليه وسلم لا يسمونه باسمه الدال على المدح، فيعدلون إلى ضده فيقولون: مذمم، وإذا ذكروه بسوء قالوا: فعل الله بمذمم. ومذمم ليس اسمه، ولا يعرف به، فكان الذي يقع منهم مصروفًا إلى غيره!
لا إله إلا الله..
صدق الله..
إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ).
ومن صور الحماية الربانية أن يغير الله السنن الكونية صيانة لنبيه صلى الله عليه وسلم ورعاية له.
وشاهد ذلك قصة الشاه المسمومة، فهذه زينب بنت الحارث جاءت للنبي صلى الله عليه وسلم، بشاة مشوية دست فيها سمًا كثيرًا، فلما لاك النبي صلى الله عليه وسلم منها مضغة لم يسغها، وقال: "إن هذا العظم يخبرني أنه مسموم"! ثم دعا باليهودية فاعترفت.
فانظر كيف خرم الله السنن الكونية من جهتين:
أولاهما: أنه لم يتأثر صلى الله عليه وسلم بالسم الذي لاكه.
وثانيتهما: أن الله أنطقَ العظم فأخبره عليه الصلاة والسلام بما فيه.
ومن صور الكفاية الربانية لنبي الهدى صلى الله عليه وسلم ممن آذاه أن يقذف الله في قلب هذا المؤذي المعتدي الإسلام، فيؤوب ويتوب، حتى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من ماله وولده ووالده والناس أجمعين!!
ومن أعجب الأمثلة في ذلك قصة أبي سفيان بن الحارث أخي النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاع، وكان يألف النبي صلى الله عليه وسلم أيام الصبا وكان له تربًا، فلما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم عاداه أبو سفيان عداوةً لم يعادها أحدًا قط، وهجا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهجا أصحابه.. ثم شاء الله أن يكفي رسوله صلى الله عليه وسلم لسان أبي سفيان وهجاءه، لا بإهلاكه وإنما بهدايته!! قال أبو سفيان عن نفسه: ثم إن الله ألقى في قلبي الإسلام، فسرت وزوجي وولدي حتى نزلنا بالأبواء، فتنكرت وخرجت حتى صرت تلقاء وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما ملأ عينيه مني أعرض عنّي بوجهه إلى الناحية الأخرى، فتحولت إلى ناحية وجهه الأخرى.
قالوا: فما زال أبو سفيان يتبعُهُ، لا ينزلُ منزلاً إلا وهو على بابه ومع ابني جعفر وهو لا يكلمه، حتى قال أبو سفيان: والله ليأذنن لي رسول الله أو لآخذن بيد ابني هذا حتى نموت عطشًا أو جوعًا، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لهما فدخلا عليه. (انظر سيرة ابن هشام 4/41). فسبحان من حوّل العداوة الماحقة إلى حب وتذلل، وملازمة للباب طلبًا للرضا!!
لا إله إلا الله..
صدق الله..
إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ).